Haneen Abu Al Neel
قررت أن أنام بعض الوقت لشعوري بالتعب الشديد يضرب جسمي. فأغمضت عيني وبدأت الغوص في عالم الأحلام, ورغم تعبي الشديد إلا أنه أخذني بعض الوقت. بدأت تتخيل لي أجسام تقارب لتكون حقيقة.فتحت عيني وأبصرت صديقي محمد! ما الذي أتى بك هنا؟ ماذا تفعل في وسط هذا الطريق الطويل؟ ومشياَ على الأقدام؟! وما به إلا يجيب ب"أنا أتأمل ما حولي من نعم...من كنوز وأكاد أن أبكي حزنا..فالناس لا يقدرون ما يملكون وما عندهم". انجرفت كفياضان الهائج بالنقاش لأثبت له أنه على خطأ فادح ولكنه حافظ على هدوءه ولم يكن يجب بالكثير ولم يكن بمستوى انفعالي. بعد أن قلت له كل ما في جعبتي, بدأ هو بالحديث بصوته الخافت الهادئ معدوم الانفعال قائلاً :" نحن من كنا نظن أن العالم أجمع مثلنا مرتاح البال بلا هموم سوى ما سنأكل وأين سننام وماذا سنفعل لقتل ملل اليوم, لكني في رحلتي منذ بدايتها وأنا أرى أتعلم وأتألم وقلبي يمتلئَ حزنا على من كنت وكيف كنت أفكر قبل بدء رحلتي هذه. مررت بالكثير من القرى والكثير مِن مَن يعيشون في الخيام ورأيت ما يعانون فهو لا يقارن بما نفعل نحن. أنا لم أعد أنا الذي فكرت بهذه الرحلة للتسلية فعند عودتي سأصحب الناس لأريهم ما رأيت, لعلهم تغيروا كما تغيرت. نحن لدينا ما نحتاج لنعيش لكن ماذا عنهم هم؟" وبدأ يمشي أسرع من قبل وأنا أجاريه وأحاول الحديث إليه لكن أنفاسي وكلامي كانا يتسابقان من أنجد الأول, فلا أستطيع إلا أن ألتقط أنفاسي فتيأس الكلمات من أن تُنجَد فتتلاشا بين تسارع شهيق وزفير. وفجأ بدأ المشي يتسارع ويتسارع إلى أن تحول إلى ركض فبدأت أسرع.
للحاق به, لكن بلا جدوى فبدأت أبَطء من تعاقب قدمي إلى أن توقفت عن التحرك ووقفت أتأمل خيال محمد يتلاشى بين قارعتي الطريق بين تلاشي خيال محمد وتأملي لما حولي بدأ الخيال المتلاشي بالظهور مجددا, فتأملت ما يحدث وبين لحظة وأخرى يبدو لي الخيال أوضح. إلى أن بدى كشخص أعرفه, وإذ به نبيل, فهببت من موقفي صارخا منادياً طالباً منه أن يتوقف. لحظات بسيطة مرت ومع كل لحظة يتضح لي خيال نبيل. مع تلمس عيني ملامح الخيال أدركت أن نبيل لم يكن يمشي بل كان يمتطي حماراً. أدركته بعد جهد طويل, وبدأت أتأمل دابته المنهكة ثم سألته, لما أنت هنا؟ لما تنتطي حمارا؟ فرد قائلا" لما لا؟" وأخذ نفسا عميقا وأكمل" لم لا؟ هل لأنه على شكله هذا؟ هل لأن الكثيرين لم يعودا يعتبرون الحمير وسيلة نقل محترمة؟! هذا الكائن من أقدم وأعظم من نقل الناس عند أمس حاجتهم له..فلم تنسونهم الآن؟ منذ انطلاقي في هذه الرحلة الطويلة البطيئة وأنا أمر بين الناس وهم ينظرون إلي بشفقة ظانين أني لا أملك سوا هذة الدابة أتنقل بها, فغضت نظري عنهم وأكملت طريقي وأنا أفكر..آه,كم الناس سخفاء فإذا كنت أنتطي حمارا ظنوا أني من أفقر العامة وإن كنت في أفخم السيارات ظنوا أني من أغنى العائلات وأنبلهم..فيال سخافة الناس عند حكمهم…ولكن ماذا عن الناس الذين هم مطرون إلى انتطاء الحمير؟ ماذا عنهم هم؟". طغى الصمت لدقائق طويلة, ولم أقدر التفكير برد يضاهي ما قاله, فأخذت أتأمل الخطوط البيضاء في وسط الشارع الواسع وأفكر بما سأقول له. رفعت رأسي بادئاَ جملتي باندافع مصطنع ولكني لم أجد نبيل. أخذت أتفقد الأراض الواسعة من حولي وأنظر مستغرباً اختفاءه فقد كان بجانبي منذ دقائق, لكني لم أجده في أي مكان قريب من حولي.
طأطأت رأسي مرةً أخرى متأملاً الخطوط البيضاء مجدداً, أفكر باختفاء نبيل. وبين تتابع الفكرة بعد الأخرى غرقت في التحليل والتفكير بما قاله نبيل ومدى صحته. لم أشعر كم مر من الوقت وأنا أمشي وحيداً أنظر للأرض في تمعن غريب, إلا عندما تداخل صوت مألوف مع تدفق أفكاري قائلاً " ماذا تفعل هنا؟ ولم تنظر إلى الأرض في وسط هذا الشارع الواسع الطويل تحت هذه الشمس القاسية؟ ". رفعت ناظري إلى الأعلى لأرى تامر مبتسم الثغر بشوش الملامح على حصان رمادي اللون متعب الساقين محمر العينين. أجبته " كنت أتأمل ما قال لي نبيل منذ لا أدري من الوقت. وأنت ماذا تفعل هنا؟" فأجابني وهو يضحك "أنا مررت بكثير من الناس ومعظمهم كان يبتسم ساخراً لشكلي على الحصان في الزمن الذي يكثر فيه التحضر, لكني لم أكترث لما قالوا ولا نظرت إليهم بل أكملت طريقي مستسخفاً لما يقولون وكيف ينظرون إلي...فإعلم أن لا أحد بتاتاً يمكنه الاستهزاء بك إلا إذا سمحت لهم أنت بخرق حائط ثقتك بنفسك". نظرت إلى عينيه العسليتين وهما يضحكان فرحاً فابتسمت قائلا " أي نعم معك ألفُ حق". نظر إلي تامر وقد خَرست عيناه واستقام ثغره وقال بنبرة مليئة بالتمعن "أنا اجتزت كل تلك النظرات وكل ذلك الحديث ولكن.أولئك الذين لا يملكون ما أملك..ما كانوا فعلوا؟ ماذا عنهم هم؟". حالما أخذت أحرك شفتاي بما أريد قوله بدأ تامر بالابتعاد, فمددت يدي لعلني أمسك بملابسه لكني أخفقت وأكمل جسم تامر وحصانه الابتعاد شيءً فشيءً إلى أن أصبح بمثابة مجموعة ظلال متجمعة غير واضحة وكأن من رسم الظلال طفل في أوائل عمره. أردت الركض خلفه منادياً لكنني ولسبب غير معروف لم أستطع تحريك شفتاي والنطق بأي كلمة.
وقفت عاجزاً عن الكلام أتأمل اختلاط الظلال بأشعة الشمس القوية مخلفاً لا أثر خلفة وكأنه لم يحدث قط. جلست على قارعة الطريق غارقاً في التفكير متأملاً كثر الأحداث في هذا الوقت الطويل.وأنا جالس أفكر بعمق وأجمع الأحداث بين محمد ونبيل وتامر سمعت صوت عجلاتٍ تتخبط على الاسفلت الناعم في سرعة مستتبة وبدأ الصوت يعلو ويعلو إلا أن توقف. التفت ورائي خائفاً متلعثم الكلمات فوجدت جسماً ضخماً لم أتعرف عليه سريعا لكن سرعان ما عرفت ما هو, إنها حافلة مكتظة بالركاب وكانهم نمل يهيج في مكان ضيق. من بين كل الوجوه الغير مألوفة ظهر لي وجه صالح وكأنه الوحيد الذي يجب أن أراه, فلم ترى عيني غيره. ثم شق صالح طريقه ما بين الجموع باتجاه الباب المكتظ ونزل من الحافلة قائلاً " ولما أنت تجلس وحدك هنا؟ ألا يصحبك أحد؟" فأجبت وما زلت أنظر إلى الحافلة باستغراب قائلا" أنا هنا منذ أن تركني تامر..تركني في صراع داخلي بما حدث وكيف اختفى" فقال لي صالح " لا تجعل مَن حولك يتحكمون بك ويقودونك بغير إرادتك إلى المكان الذي يبتغونه, فكأن لا وجود لك. يقودونك مثلما يريدون من دون أن يسمعوا لك..فهذا ما تعلمته منذ ركوبي هذه الحافلة وانطلاقي في دربي هذا". عند تفوهه بآخر حرف من هذه الكلمات, أخذت أحلل لكي لا أقول الحماقات ففهمت معنى كلماته لكني لم أفهم قصده وإلى ما يؤشر بقوله هذا. بعد أن رأى محيى وجهي المتلبكة استأنف ما كان يقول " من لا يملك
الإرادة كي يقف في وجه كل من يحاول مَحورة مساره وإضعاف رغباته للبقاء في طريقه سيلقى نَحب كل ما يؤمِنْ به...أنا لم أجعل أحد يمس رغباتي ومبادئي إلا الأيام والمواقف لكن ماذا سيفعل الذين لا يقفون دفاعاً عن رأيهم؟ ماذا عنهم هم؟" فقلت له مؤيداً "نعم كلامك صحيح". فور قولي لهذه الكلمات إذ بالباص ينطلق بسرعة هائلة إلى نهاية الشارع وكأنه ينطلق نحو الشمس المحمرة الذهبية المشتعلة. هذه المرة لم أفعل شيء بل حافظت على وضعيتي السابقة, لتأكدي بأن انفعالي سيكون بلا جدوى.
جلست أنظر إلى قرص الشمس الملتهب وهو ينشر أشعته المملوئى بالحرارة الاهبة. ضممت وجهي بين كفتي كمن يريد الاختباء من شيء ما وأنا أفكر بأين أنا وأين يذهب الجميع. مع هبوط الليل واختفاء كل شيء تحت مظلة من العتمة, بدأت بالقلق حيال أين أذهب وأين أنا وماذا سأفعل الآن وإذ بصوت العجلات مجدداً يضرب قشرة الأرض بنعومة ففرحت لعله يكون صالح مجدداً. بدأت ألمح ضوء مصابيح..لكن لم يكون ضوء مصابيح حافلة بل سيارة خاصة, فتتضارب الغبط بالخوف. توقفت السيارة أمامي وفٌتحت النافذة وما اذ برأس يطل من النافذة. بدت ملامح الوجه معروفة لي, فبعد التدقيق أدركت أنه رمزي. صاح رمزي طالباً مني الدخول إلى السيارة فالبقاء في هذا الشارع الطويل في الليل خطر مثل الأفعى في الظلام. لبيت طلب صديقي, وجلست بجانبه وبدأت أسئله "ما هذا الشارع الطويل و إلى أين يؤدي؟" . نظر إلي رمزي و ضحك ثم أجاب بهدوء "هذا الطريق يؤدي إلى العقبة وأنا متجه إلى هناك". ساد الصمت في السيارة وأنا أفكر ورمزي ينظر إلي في تمعن محاولاً معرفة سبب تمعني الصامت الغريب ثم هب قائلاً "ما بك مهموم البال؟ اسمع يا صديقي, منذ خروجي من عمان وحتى بعد اجتيازي مسافة لا بأس بها من طريق العقبة الطويل مررت بالكثير من التجارب التي غيرت طريقة تفكيري", ثم توقف قليلاً ليتأكد أني ما زلت مستيقظاً للمحه إياني أُغلق عيني بين التارةِ والأخرى. استأنف رمزي قوله بنبرة صوت أعلى "فتعلمت أن لا أحد له أن يتدخل في الآخر. أنا أفعل ما يحلو لي وذلك يفعل ما يحلو له ولن يؤثر ما أفعله أنا بما يفعله هو فإذ لم أسمح له بتجاوز حدود حريته لن يتعداها, لكن إذا سمحت له سأكون أنا المتضرر. ولكن في الكثير من الأوقات أجلس أتخيل ماذا لو لم أوقفه عند حده؟ ماذا سيحدث؟ ماذا عن الناس الذين ليس لديهم القدرة على الوقوف في وجه أمثاله؟ ماذا عنهم هم؟" فور انتهاء رمزي من آخر كلمة غرقت ولسبب أجهله في نوم عميق وبدأت كل المعالم من حولي بالتلاشي والتحول إلى ظلال.
فتحت عيني وأبصرت رؤوساً كثيرة متعددة الأشكال ثم نظرتُ من حولي فوجدت صديقي "منتصر" ينظر من نافذة صغيرة. سرعان ما استعدت وعيي وأدركت أني في الطائرة وأيقنت أن كل ما حصل سابقاً رغم احساس به وكأنه حقيقة كان مجرد خيال. وبين إعيائي لكل هذا والتفكير بكل ما حلمت به سُمع صوتاً يقول " لقد وصلت الرحلة رقم 280 إلى مطار العقبة...." فأدركني صديقي قلق المحيا وسأل إذا كان بي خطب ما فأجبته بالنفي وأنا كالأعمى أتلمس كل شيء لعلني أذكر أين وضعت حقيبتي الصغيرة. رآني صديقي في هذه الحال ولم يصدق بأني سليم ليس هنالك خطب ما, فناولني حقيبتي من أعلى ونظر إلي بنظراتٍ مضحكة وقال لي "لن نخرج من الطائرة إلى عندما تبوح لي بما خطبك". جلست أضحك ثم قلت "أتعلم؟ إن الشخص يمكنه أن يرى الكثير من خلال القليل ويمكنه معرفة الكثير من تجاربه ومشاكله ولكن أتعلم ما الشيء مضحك؟ أن يتعلم الشخص الكثير من خلال ما لا يمر به".
طأطأت رأسي مرةً أخرى متأملاً الخطوط البيضاء مجدداً, أفكر باختفاء نبيل. وبين تتابع الفكرة بعد الأخرى غرقت في التحليل والتفكير بما قاله نبيل ومدى صحته. لم أشعر كم مر من الوقت وأنا أمشي وحيداً أنظر للأرض في تمعن غريب, إلا عندما تداخل صوت مألوف مع تدفق أفكاري قائلاً " ماذا تفعل هنا؟ ولم تنظر إلى الأرض في وسط هذا الشارع الواسع الطويل تحت هذه الشمس القاسية؟ ". رفعت ناظري إلى الأعلى لأرى تامر مبتسم الثغر بشوش الملامح على حصان رمادي اللون متعب الساقين محمر العينين. أجبته " كنت أتأمل ما قال لي نبيل منذ لا أدري من الوقت. وأنت ماذا تفعل هنا؟" فأجابني وهو يضحك "أنا مررت بكثير من الناس ومعظمهم كان يبتسم ساخراً لشكلي على الحصان في الزمن الذي يكثر فيه التحضر, لكني لم أكترث لما قالوا ولا نظرت إليهم بل أكملت طريقي مستسخفاً لما يقولون وكيف ينظرون إلي...فإعلم أن لا أحد بتاتاً يمكنه الاستهزاء بك إلا إذا سمحت لهم أنت بخرق حائط ثقتك بنفسك". نظرت إلى عينيه العسليتين وهما يضحكان فرحاً فابتسمت قائلا " أي نعم معك ألفُ حق". نظر إلي تامر وقد خَرست عيناه واستقام ثغره وقال بنبرة مليئة بالتمعن "أنا اجتزت كل تلك النظرات وكل ذلك الحديث ولكن.أولئك الذين لا يملكون ما أملك..ما كانوا فعلوا؟ ماذا عنهم هم؟". حالما أخذت أحرك شفتاي بما أريد قوله بدأ تامر بالابتعاد, فمددت يدي لعلني أمسك بملابسه لكني أخفقت وأكمل جسم تامر وحصانه الابتعاد شيءً فشيءً إلى أن أصبح بمثابة مجموعة ظلال متجمعة غير واضحة وكأن من رسم الظلال طفل في أوائل عمره. أردت الركض خلفه منادياً لكنني ولسبب غير معروف لم أستطع تحريك شفتاي والنطق بأي كلمة.
وقفت عاجزاً عن الكلام أتأمل اختلاط الظلال بأشعة الشمس القوية مخلفاً لا أثر خلفة وكأنه لم يحدث قط. جلست على قارعة الطريق غارقاً في التفكير متأملاً كثر الأحداث في هذا الوقت الطويل.وأنا جالس أفكر بعمق وأجمع الأحداث بين محمد ونبيل وتامر سمعت صوت عجلاتٍ تتخبط على الاسفلت الناعم في سرعة مستتبة وبدأ الصوت يعلو ويعلو إلا أن توقف. التفت ورائي خائفاً متلعثم الكلمات فوجدت جسماً ضخماً لم أتعرف عليه سريعا لكن سرعان ما عرفت ما هو, إنها حافلة مكتظة بالركاب وكانهم نمل يهيج في مكان ضيق. من بين كل الوجوه الغير مألوفة ظهر لي وجه صالح وكأنه الوحيد الذي يجب أن أراه, فلم ترى عيني غيره. ثم شق صالح طريقه ما بين الجموع باتجاه الباب المكتظ ونزل من الحافلة قائلاً " ولما أنت تجلس وحدك هنا؟ ألا يصحبك أحد؟" فأجبت وما زلت أنظر إلى الحافلة باستغراب قائلا" أنا هنا منذ أن تركني تامر..تركني في صراع داخلي بما حدث وكيف اختفى" فقال لي صالح " لا تجعل مَن حولك يتحكمون بك ويقودونك بغير إرادتك إلى المكان الذي يبتغونه, فكأن لا وجود لك. يقودونك مثلما يريدون من دون أن يسمعوا لك..فهذا ما تعلمته منذ ركوبي هذه الحافلة وانطلاقي في دربي هذا". عند تفوهه بآخر حرف من هذه الكلمات, أخذت أحلل لكي لا أقول الحماقات ففهمت معنى كلماته لكني لم أفهم قصده وإلى ما يؤشر بقوله هذا. بعد أن رأى محيى وجهي المتلبكة استأنف ما كان يقول " من لا يملك
الإرادة كي يقف في وجه كل من يحاول مَحورة مساره وإضعاف رغباته للبقاء في طريقه سيلقى نَحب كل ما يؤمِنْ به...أنا لم أجعل أحد يمس رغباتي ومبادئي إلا الأيام والمواقف لكن ماذا سيفعل الذين لا يقفون دفاعاً عن رأيهم؟ ماذا عنهم هم؟" فقلت له مؤيداً "نعم كلامك صحيح". فور قولي لهذه الكلمات إذ بالباص ينطلق بسرعة هائلة إلى نهاية الشارع وكأنه ينطلق نحو الشمس المحمرة الذهبية المشتعلة. هذه المرة لم أفعل شيء بل حافظت على وضعيتي السابقة, لتأكدي بأن انفعالي سيكون بلا جدوى.
جلست أنظر إلى قرص الشمس الملتهب وهو ينشر أشعته المملوئى بالحرارة الاهبة. ضممت وجهي بين كفتي كمن يريد الاختباء من شيء ما وأنا أفكر بأين أنا وأين يذهب الجميع. مع هبوط الليل واختفاء كل شيء تحت مظلة من العتمة, بدأت بالقلق حيال أين أذهب وأين أنا وماذا سأفعل الآن وإذ بصوت العجلات مجدداً يضرب قشرة الأرض بنعومة ففرحت لعله يكون صالح مجدداً. بدأت ألمح ضوء مصابيح..لكن لم يكون ضوء مصابيح حافلة بل سيارة خاصة, فتتضارب الغبط بالخوف. توقفت السيارة أمامي وفٌتحت النافذة وما اذ برأس يطل من النافذة. بدت ملامح الوجه معروفة لي, فبعد التدقيق أدركت أنه رمزي. صاح رمزي طالباً مني الدخول إلى السيارة فالبقاء في هذا الشارع الطويل في الليل خطر مثل الأفعى في الظلام. لبيت طلب صديقي, وجلست بجانبه وبدأت أسئله "ما هذا الشارع الطويل و إلى أين يؤدي؟" . نظر إلي رمزي و ضحك ثم أجاب بهدوء "هذا الطريق يؤدي إلى العقبة وأنا متجه إلى هناك". ساد الصمت في السيارة وأنا أفكر ورمزي ينظر إلي في تمعن محاولاً معرفة سبب تمعني الصامت الغريب ثم هب قائلاً "ما بك مهموم البال؟ اسمع يا صديقي, منذ خروجي من عمان وحتى بعد اجتيازي مسافة لا بأس بها من طريق العقبة الطويل مررت بالكثير من التجارب التي غيرت طريقة تفكيري", ثم توقف قليلاً ليتأكد أني ما زلت مستيقظاً للمحه إياني أُغلق عيني بين التارةِ والأخرى. استأنف رمزي قوله بنبرة صوت أعلى "فتعلمت أن لا أحد له أن يتدخل في الآخر. أنا أفعل ما يحلو لي وذلك يفعل ما يحلو له ولن يؤثر ما أفعله أنا بما يفعله هو فإذ لم أسمح له بتجاوز حدود حريته لن يتعداها, لكن إذا سمحت له سأكون أنا المتضرر. ولكن في الكثير من الأوقات أجلس أتخيل ماذا لو لم أوقفه عند حده؟ ماذا سيحدث؟ ماذا عن الناس الذين ليس لديهم القدرة على الوقوف في وجه أمثاله؟ ماذا عنهم هم؟" فور انتهاء رمزي من آخر كلمة غرقت ولسبب أجهله في نوم عميق وبدأت كل المعالم من حولي بالتلاشي والتحول إلى ظلال.
فتحت عيني وأبصرت رؤوساً كثيرة متعددة الأشكال ثم نظرتُ من حولي فوجدت صديقي "منتصر" ينظر من نافذة صغيرة. سرعان ما استعدت وعيي وأدركت أني في الطائرة وأيقنت أن كل ما حصل سابقاً رغم احساس به وكأنه حقيقة كان مجرد خيال. وبين إعيائي لكل هذا والتفكير بكل ما حلمت به سُمع صوتاً يقول " لقد وصلت الرحلة رقم 280 إلى مطار العقبة...." فأدركني صديقي قلق المحيا وسأل إذا كان بي خطب ما فأجبته بالنفي وأنا كالأعمى أتلمس كل شيء لعلني أذكر أين وضعت حقيبتي الصغيرة. رآني صديقي في هذه الحال ولم يصدق بأني سليم ليس هنالك خطب ما, فناولني حقيبتي من أعلى ونظر إلي بنظراتٍ مضحكة وقال لي "لن نخرج من الطائرة إلى عندما تبوح لي بما خطبك". جلست أضحك ثم قلت "أتعلم؟ إن الشخص يمكنه أن يرى الكثير من خلال القليل ويمكنه معرفة الكثير من تجاربه ومشاكله ولكن أتعلم ما الشيء مضحك؟ أن يتعلم الشخص الكثير من خلال ما لا يمر به".